وترتبط التربية الموسيقية الحديثة بثقافة المجتمع، وخصوصيته النغمية التي تمثل أحد مقومات هويته. فكل عمل موسيقي موجه إلى الناشئة، يراد له أن يكون تربويا، لابد أن تستدمج بنيته عناصر الثقافة الموسيقية النابعة من المجتمع. وتزخر البلاد العربية بألوان زاهية من النغم والإيقاع، وصنوف غنية من الموسيقى التقليدية والتراثية والشعبية والعصرية، تمثل مادة خصبة وغزيرة لدروس التربية الموسيقية، ولعملية الإستماع اليومية، خاصة في مراحل الإستئناس بربع البعد. وهنا لابد من توضيح الموقف من اعتماد السيكاه أو استبعادها بالنسبة للموسيقى التربوية، باعتبارها موجهة إلى مرحلة عمرية ذات خصوصيات نمائية وهي مرحلة الطفولة. فمبدأ التدرج في بناء المفهوم الموسيقى لدى الطفل، يستلزم الإقتصار على السلالم الكبيرة والصغيرة، بدء بالسلم الطبيعي "دو" الكبير وسلم "لا" الصغير. والتدرج في إدخال التحولات والمقامات العربية الخالية من ربع البعد. واستبعاد السيكاه - مؤقتا - إلى حين اكتساب الطفل لأذن موسيقية، تؤهله لإكتشاف الخصائص النغمية لربع البعد وثلاثة أرباعه بشكل تدريجي، اعتمادا على الإستئناس بعملية الإستماع التي توفرها البيئة الموسيقية العربية. وتشكل مرحلة بداية العمليات الصورية – التجريدية التي تنطلق غالبا في السن الثانية عشر، المرحلة الأنسب لبداية تقبل التراكيب النغمية والإيقاعية المعقدة، والخصائص النغمية للسيكاه التي يتشربها الإنسان العربي منذ طفولته المبكرة، لكنه لا يستوعبها من أول وهلة. ولا يبني مفهومها دفعة واحدة، بل بسيرورة تدريجية.
ولذلك، لزم أن يكون اعتماد تلك التراكيب المعقدة، عمليا مسبوقا بتوظيف المقامات المركبة من الأبعاد وأنصافها فقط، انسجاما مع مبدأ التدرج في بناء التعلمات والمفاهيم الموسيقية.
ورغم ثراء الموسيقى العربية وعراقة تقاليدها وجذورها الضاربة في التاريخ، وريادتها في عصور سابقة ... إلا أن التربية الموسيقية والجمالية عموما، لازالت لم تترسخ بعد لدى الإنسان العربي كاختيار واع وثابت. فهي لا تلقى الإهتمام الكافي داخل الأسرة، ولا تعدو أن تكون مجرد مادة تكميلية، تنحصر في التعليم الإبتدائي في الأناشيد، وبعض العروض الغنائية والموسيقية المناسباتية، في أغلب البلدان العربية، ولا تزال شعب التربية الموسيقية عندنا، في التعليم الإعدادي والثانوي وحتى العالي بعيدة عن تحقيق غاياتها كما ونوعا بالنظر إلى مثيلتها في الغرب، فهي مادة دراسية تبدو "غريبة" و "دخيلة" في ظل تفاقم آفة الأمية - وفي زمن أصبح فيه الرهان الأول على العلم والمعرفة- مما يسمح بانتشار ذهنيات التحريم، بالرغم من الرصيد الزاخر للموسيقى العربية الرفيعة التي تسمو عن كل إسفاف.
إن الموسيقى التي هي جواهر روحانية بنظر إخوان الصفا، وأعلى من كل حكمة وفلسفة برأي بتهوفن ... يمثل ازدهارها أحد أهم مظاهر رقي المجتمع وتقدمه، ولهذا ترتبط التربية الموسيقية أيضا بما راكمته علوم الموسيقى وعلوم التربية على حد سواء، من إنجازات علمية غير مسبوقة على المستويين المعرفي والبيداغوجي، تخص ميادين التنظير والتقعيد والتنظيم المنهجي الدقيق لتقنيات العزف على مختلف الآلات، والغناء بشتى أنواعه. وبرزت علوم مختصة بمختلف فروع الموسيقى كتآلف الأنغام والطباق اللحني والتأليف والقوالب الموسيقية وتاريخ الموسيقى ... ومنهجيات تدريس مختلف المواد الموسيقية في كافة التخصصات بالمعاهد والمدارس العليا والجامعات ... وكذا في التربية الموسيقية وطرائقها البيداغوجية ...
وهنا لا يمكن الحديث عن التربية الموسيقية، من دون الأخذ بمعطيات علوم الموسيقى لما تزخر به من إمكانيات هائلة، في منتهى الدقة والتنظيم والثراء على أساس علمي، وما حققته من إنجازات علمية، يستحيل القفز عليها، مثلما لا يمكن الحديث عن التربية اليوم، من دون الإستفادة من منجزات علوم التربية التي تتقاطع مع عدة علوم سواء من العلوم الحقة أو من العلوم الإنسانية، وخاصة منها ما راكمه علم النفس التربوي والفزيولوجيا وعلم الأعصاب ... وما تحقق بفضلها من نتائج مذهلة جعلت التربية تنتقل إلى مصاف العلم انطلاقا من السلوكية إلى الكفايات ونظرية الذكاءات المتعددة التي أزاحت مفهوم الذكاء التقليدي، ويختلف كل فرد عن الآخر في نوعية الذكاءات التي يتمتع بها وتميزه عن غيره.
وليست قضية النهوض بالتربية الموسيقية في العالم العربي ترفا فكريا أو انشغالا مثقفيا ضيقا، أو مجرد أحاديث لتزجية الفراغ، بل هي قضية حقيقية وشأن ثقافي هام، ودينامية تربوية تسهم في تقدم المجتمع، ولأجل النهوض بها في عالمنا العربي، أقترح ما يلي :
• إحداث شعبة ميتودولوجيا التربية الموسيقية بالتعليم العالي، على مستوى الجامعات، وخاصة بكليات التربية وبالمعاهد الوطنية، لإمداد مراكز تكوين أساتذة التربية الموسيقية بمكونين ذوي كفايات عالية في علوم الموسيقى وعلوم التربية.
• إقرار مبدأ الإستفادة من الطرائق الفعالة في التعليم الموسيقي والتربية الموسيقية بالمعاهد الموسيقية، وبالتعليم العام وفي العمل الجمعوي أيضا.
• برمجة مادة التربية الموسيقية في التعليم الإبتدائي، وتحري الدقة العلمية في وضع مناهجها ومقرراتها، وتوفير الوسائل اللازمة لها.
• إعتماد التكوين المستمر لأطر تدريس التربية الموسيقية.
• وضع خطة إعلامية تتوخى النهوض بالتربية الموسيقية في الإعلام السمعي البصري.
• تأسيس جمعيات للتربية الموسيقية ودعم العمل الجمعوي الفاعل في هذا المجال وخلق شراكات بين المؤسسات التعليمية والمعاهد الموسيقية وجمعيات المجتمع المدني لتبادل الخبرات وتطوير الكفايات والقيام بنشاطات مشتركة.[/size]