يقول الدكتور هنري فارمر مؤلف كتاب "مصادر الموسيقى العربية" في مستهل كتابه: يجب ألا يرجع المرء في هذا البحث إلى الرسائل المقصورة على الموسيقى وحدها، كما هو الحال في ميادين البحوث الأخرى، وإنما ينبغي اختبار جميع كتب التاريخ والتراجم والشريعة والفقه والآداب والموسوعات اختباراً دقيقاً، ولهذا السبب أدخل في هذا البحث عدد كبير من الكتب في الميادين السابقة من النشاط الفكري. فالتاريخ والتراجم ييسران لنا معرفة كيفية تطور الفن في كثير من مظاهره، وكذلك تعطينا الآداب، وخاصة في المجاميع، نفس الخدمة، على حين تنفعنا الكتب الفقهية والدينية كثيراً في وصف الآلات الموسيقية وتاريخ استعمالها. فالمناقشات التي لا تنتهي حول تحليل سماع الموسيقى اضطرت محرميها إلى وصف الآلات المحرمة ليعرفها المؤمنون فيتجنبوا إثم الاستماع إليها. ولمّا كان بعض هذه الآلات قد أُهمل استعماله منذ ذلك الحين، كان من المهم أن نعرف ماهيتها، ولو اضطررنا للرجوع إلى هؤلاء العلماء الخصوم إلى حد ما.
وتحتل موسيقى عرب القرون الوسطى في تاريخ هذا الفن، موضعاً بين الفن البيزنطي، وفن عصر النهضة الحديثة في أوروبا الغربية. ونستطيع أن نلمح في هذا الفن العربي التطور المنطقي للموسيقى أحادية الجانب Homophony عند الشعوب السامية القديمة، والإغريق والبيزنطيين، والتي ربما وصلت إلى أسمى صور التنظيم على أيدي العرب. وهناك مسألة أخرى، فالاهتمام المتزايد بدراسة الموسيقى المقارَنة في البلدان الأخرى، جعل من الواجب علينا أن نعرف كل ما يمكن معرفته عن ذلك الفن عند العرب في العصور الوسطى، وخاصةً حين يتذكر المرء الدور الهام الذي قام به هذا الشعب في تطور المدنية. ولعل يونس الكاتب، تلميذ ابن محرز، هو أول كاتب معروف في تاريخ الموسيقى العربية. وابن محرز وابن مسجح، المتوفيان في بداية القرن الثامن الميلادي، هما اللذان أوجدا علم الموسيقى العربية، وللأسف الشديد، فُقدت جميع رسائلهم، ولم يصل إلينا غير رسالة واحدة هي رسالة ابن المنجم. وهذه الرسالة مع إشارات أبي الفرج الأصفهاني في كتاب "الأغاني" الكبير، هما المصدر الوحيد لمعلوماتنا عن نظرية المدرسة العربية القديمة. أما الأغاني القديمة والألحان التي كان العرب يتداولونها وتُنقل بالسماع من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل، فبالرغم من أن طبيعة النقل من مغنٍ إلى آخر على مدى الأزمنة والأيام تجعل هذه الأغاني المنقولة عُرضة للتحوير والتعديل، فلا يمكن أن تصل إلى مسامعنا سالمة كما كانت في الأصل دون أن يعتريها الكثير من التغيير، إلا أنه مهما كان هذا التناقل محوَّراً فإنه لا يخلو من بعض الفوائد والإشارات التي تهدينا على الأقل إلى ما كانت عليه هذه الأغاني من أساليب وتركيب، كما تدلنا على أنموذج السلم الموسيقي العربي القديم الموروث. ولا يجب أن نقلل من قيمة هذه الألحان الشعبية الموروثة الشائعة في جميع الأقطار العربية تقريباً، فهي المصدر الصحيح والوحيد المنظور الذي لولاه لما كنّا عرفنا شيئاً عن ماضي موسيقانا وسلمها وطراز ألحانها. على الرغم من أن هذا السلم الذي عرفناه عن طريقها يتعرض في بعض البلدان العربية لقليل من الفروق في بعض أجزائه القياسية الصوتية، بحكم طبيعة الانتقال والاقتباس والتأثر باللهجة والذوق.
وفي عصر الدولة العباسية –ذلك العصر الذهبي للموسيقى العربية- الذي جعله المؤرخون بدء الموسيقى العربية، أخذ العرب من موسيقى الفرس واليونان، ومزجوا ما أخذوه بموسيقاهم وطبعوه بطابعهم الخاص، حتى تبلور وبات كالأصل، وصار هذا الأسلوب الجديد نوعاً خاصاً بهم ويدل عليهم. وكان أن رافق هذا العصر الذهبي عصر آخر هو عصر الأندلس الذي ساعد على ازدهار الموسيقى العربية ورقيها في شرق الوطن العربي ومغربه. ورغم ذلك، ظلّ السلّم العربي غامضاً، وجميع من ألّفوا في الموسيقى العربية لم يخبرونا عن السلم الموسيقي. ولقد كان الفارابي أوّل من عرّف الأمة العربية بسلمها، وشرح الآلات الموسيقية العربية التي كانت متداولة في زمانه، كالعود والطنبور البغدادي والطنبور الخراساني والرباب. وشرح السلّم الموسيقي العربي القديم الذي كان مستعملاً في زمن الجاهلية. واعتمد الفارابي في شرحه للسلّم الموسيقي على الأجناس، أو ما يسميه بالتجنيس فقال:
فالتجنيس الأول إذاً: عودة، وعودة، ونصف عودة.
1 1 1/2
|____________________|____________________|__________|
عودة عودة نصف عودة
24 24 12
وبُعد العودة هو البُعد الطنيني او المسافة الصوتية "التون". أي أن الجنس هو نفسه جنس العجم المعروف الآن. ويقول عنه الفارابي أنه جنس مشهور ومألوف جداً. ويضيف الفارابي: (ولمّا كان وسطى زلزل فوق البنصر بقريب من مقدار ربع عودة صار التجنيس الثاني: عودة، وثلاثة أرباع عودة، وثلاثة أرباع عودة).
1 3/4 3/4
|____________________|_______________|_______________|
عودة ثلاثة أرباع عودة ثلاثة أرباع عودة
24 18 18
أي تون وثلاثة أرباع التون، وثلاثة أرباع التون، وهو ما ينطبق على جنس الراست الحالي، وهكذا يذكر الفارابي ثمانية أجناس مفصّلة كما سبق.
ثم جاء صفي الدين عبد المؤمن البغدادي، بعد الفارابي بمائتي سنة تقريباً، فشرح في كتابه "الأدوار" ثمانية وأربعين سلماً، لثلاثين منها فاصل يقع في آخر كل منها. أي بين الصوت السابع والثامن من كل ديوان، وسبعة منها يقع الفاصل بين صوتيها السابع والثامن بنسبة بُعد صغير (نصف تون). وأحد عشر ديواناً آخر. ولكن هل كانت كلها مستخدمة؟... لا يمكن إثبات ذلك أو نفيه.
كانت حسابات الفارابي ومن بعده ابن سينا ثم الأرموي، تعتمد تعتمد على حساب "الكوما". (الكوما هي بُعد طنيني صغير جداً يساوي 9/1 من البعد الطنيني الكامل). وابتداءً من القرن الخامس عشر وما بعده، إبان السيطرة العثمانية على المنطقة العربية، تأثر الموسيقيون العرب بالموسيقى التركية، وخاصةً من درس منهم في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فيمعهد الموسيقى الرسمي في إسطنبول "دار الألحان التركية"، فأدخلوا سلالم موسيقية جديدة على الموسيقى العربية ودمجوها بالأجناس العربية مثل السوزدلار والعرضبار والحجاز كار والشد عربان... وهكذا يوجد بين أيدينا الآن مجموعة من السلالم الموسيقية المستخدمة في الموسيقى العربية، بعضها عربي أصيل وبعضها الآخر فارسي أو تركي، اعتادت الأذن العربية سماعه من خلال مؤلفات الموسيقيين العرب الذين تأثروا بالموسيقى الفارسية أو التركية.