هل يستطيع التلميذ بناء معرفة علميّة جديدة فوق معرفته غير العلميّة القديمة؟

هل يستطيع التلميذ بناء معرفة علميّة جديدة فوق معرفته غير العلميّة القديمة؟


استوحيت هذا المقال من محاضرة حضرتها في سوسة بمناسبة الأيام الوطنيّة الثالثة لتعلّميّة علوم الحياة و الأرض في 22 و 23 نوفمبر 2008 بسوسة. قدّم هذه المحاضرة الأستاذ André Giordan مدير مخبر فلسفة و تعلميّة العلوم بجامعة Genève في سويسرا حول تصوّرات التلميذ أو المكتسبات التي يأتي بها للقسم ((Les conceptions de l’apprenant وبدأ بطرح النماذج المختلفة التي نستعملها لمعالجة هذه التصورات غير العلمية:
.- النموذج الأول: نتجاهل هذه التصورات غير العلمية لدى التلميذ و نعتبره وعاء فارغا و على المدرس أن يملأه بالمعرفة أو صفحة بيضاء يكتب فيها المعلّم ما يشاء. سادت هذه المقاربة في التعليم آلاف السنين حيث يعرف المعلم كل شيء و لا يعرف التلميذ أي شيء.
-. النموذج الثاني: نتجنّب هذه التصورات غير العلمية حتى لا ترسخ في ذهن التلميذ أو تعيق اكتسابه للمعرفة العلميّة الجديدة. هذه مقاربة "المدرسة السلوكيّة" (واتسون و سكينر) التي تسود الآن في التعليم التونسي و تعتبر التلميذ علبة سوداء لا يعنينا ما بداخلها و لا نحاول فهم آلية تشغيلها. نلقن التلميذ معارف متفرقة وفق مواد منفصلة عن بعضها البعض و نطلب منه حفظها و استرجاعها كما هي يوم الامتحان. لا يتساءل أصحاب هذه المقاربة عن كيفية فهم التلميذ للدرس أو آلية اكتسابه للمعرفة. كشف التلميذ الذكي الخلل الأساسي في هذه المقاربة و عبّر عنه بالجملة الساخرة مخاطبا مدرّسيه أثناء الامتحان "بضاعتكم ردّت إليكم!" و هي في الحقيقة بضاعتهم و ليست بضاعته لأنه لم يشارك في اكتسابها بل فرضت عليه غصبا فحفظها و كررها كالببغاء و حملها كحمل الحمار للأسفار.
-. النموذج الثالث: نتعرّف علي هذه التصورات غير العلمية حتّى نحدّد الرسالة المعرفية التي نريد تمريرها في البرامج. هذه مقاربة "المدرسة البنائيّة" (بياجي) التي حررت التلميذ من التبعية للأستاذ و منحته الثقة في قدراته الذهنية و أكدت أن ألمتلق قادر عل بناء معرفته بنفسه لو وفرنا له الوسط المناسب و المدرس الكفء.
-. النموذج الرابع: نعالج هذه التصورات غير العلمية و هذه مقاربة "المدرسة الاجتماعيّة-البنائيّة" (فيڤوتسكي و دواز و مونيي). ينقسم هذا النموذج إلى قسمين:
- القسم الأول من النموذج الرابع: نعالج تصورات التلميذ غير العلمية بالإفصاح عنها داخل القسم حتّى تصبح مصدر تحفيز له.
- القسم الثاني من النموذج الرابع: نعالج التصورات غير العلمية للتلميذ بتوظيفها في عمليّة التعلّم. يتفرّع هذا القسم الأخير إلى ثلاثة فروع:
- الفرع الأول من القسم الثاني للنموذج الرابع: نستفيد من التصورات غير العلمية للتلميذ و لا ننفيها و نحاول إبرازها و مكافحتها بالمعرفة العلميّة الجديدة.
- الفرع الثاني من القسم الثاني للنموذج الرابع: نحاول تفنيد التصورات غير العلمية للتلميذ و تفكيكها و هذه "مقاربة القطيعة الإبستومولوجيّة" لباشلار. في هذه الحالة قد تعترضنا الصعوبة التالية: إذا جابهنا التلميذ بأخطائه فقد نصل إلى نتيجة معاكسة تتمثل في تعطّل تفكيره و فقدان توازنه الذهني. مثلا: يتصور التلميذ أنّ القلب هو مصدر الحب. نفنّد هذا التصور غير العلمي لديه بالتذكير بعمليّات زرع القلب فإذا زرعنا قلب أحد متوف للتو في جسم آخر حي فهل ينتقل شعور الميّت للحي؟ قد يجد التلميذ نفسه مجبرا على القطيعة التامة مع معارفه السابقة مما قد يسبب له حرجا و فشلا و عائقا في المستقبل الدراسي.

- الفرع الثالث من القسم الثاني للنموذج الرابع: يجمع الفرع الثالث بين ال:ن الاثنين السابقين و يتمثّل في الاستفادة من التصورات غير العلمية للتلميذ و نفيها في نفس الوقت. مثلا: يتصور التلميذ أنّ النبتة الخضراء تتغذّى من التربة فقط. نفنّد تصوره هذا الذي يتأرجح بين العلمي و غير العلمي بالتذكير بالنباتات التي تعيش خارج التربة تماما في الماء أو في الهواء مجهريه كانت أو مرئيّة و النباتات الطفيليّة التي تعيش على كاهل نباتات أخرى دون تربة. نتساءل و نقول: لماذا ننفي دائما تصور التلميذ ؟ فتصوره قد يحتوي على جزء من الجواب الصحيح فالنبتة تأخذ بعض غذائها المتمثّل في الأملاح المعدنيّة و الماء من التربة و تكمل أكثر غذائها من ثاني أكسيد الكربون المتوفّر في الهواء المحيط بها. يتعلّم التلميذ, في هذه الحالة بالاعتماد على تصوراته القديمة (تتغذّى النبتة من التربة) و في نفس الوقت ضدّ هذه التصورات (تتغذّى النبتة من الهواء). يتكوّن هذا النموذج الثنائي المتضاد من العمل مع/و ضد التصورات غير العلمية للتلميذ و يتضمن عدة متناقضات يجب المحافظة عليها و إذكائها عند اختفائها و هي التالية:
 يتطلب التعلم مجهودا يتناقض مع اللذة, لكن قد يحتوي هذا المجهود على لذة تسمى لذة بناء المعرفة و هي محرك مهم للبحث عن الجديد.
 يعارض المدرس التلميذ و يكشف له عدم علمية تصوراته لكن في نفس الوقت يساعده على تجاوزها و على بناء تصورات علمية بديلة.
 يفقد المتعلم توازنه الذهني عندما يتلقى معارف تنفي معارفه الراسخة و المريحة لكن في نفس الوقت يستطيع هضم هذه المعارف الجديدة بمساعدة المدرس و الأقران فيستعيد توازنه الذهني و يبقى في حالة "توازن ولا توازن دائم".
نحن المدرسون نعلم التلميذ كيف يجيب و لا نعلمه كيف يسأل و الغريب أن إجاباتنا لا علاقة لها بأسئلة التلميذ. فهل طلبنا مرة من التلميذ أن يعد فرضا تأليفيّا في القسم قبل أن يجتاز الامتحان؟ أنا فعلتها مع تلامذتي و اكتشفت أسئلة لم تخطر على بالي قبل هذا التمرين و استفاد التلاميذ بالمراجعة و الاستعداد للامتحان و العمل الجماعي.
قديما كان المتعلم يكتسب زادا معرفيا صالحا مدى الحياة مثلا: أستاذ علوم الحياة و الأرض يتخرج مجازا و يبقى كامل حياته المهنية يجتر هذا الزاد و لا يجدده لأنه لم يتعلم كيف يتعلم بنفسه و قس على هذا المثال الطبيب الذي يعالج حالات مرضية جديدة بعقلية علمية قديمة و المسئول المتخرج في الستينات من القرن العشرين يتعامل مع مرؤوسيه بعقلية البايات و المعلم القديم ما زال يربي الأجيال الجديدة بعصا المؤدب التقليدي في الكتّاب.
أما اليوم فالعلوم البيولوجية تتجدد كليا تقريبا كل سبع سنوات و الإعلامية كل أربع سنوات فزاد الأمس انتهت مدة صلاحيته و لو أصررنا على مواصلة استعماله لأصيب تلامذتنا بالتخلف الذهني. لذلك نرى أنه من واجبنا تعليم التلميذ التعلم الذاتي حتى يكون قادرا على تجديد زاده العلمي بنفسه كل ما جدّ جديد. .و المثل الصيني الشهير ينطبق تماما على التعليم اليوم "لا تعطني سمكة بل علمني كيف أصطاد".
كل النماذج البيداغوجية و التعلمية التي تعرضنا إليها في هذا المقال تبقى صالحة على شرط استعمال كل واحدة منها في موضعها المناسب. مثلا: في مؤتمر علمي حيث يتقارب المستوى العلمي للمشاركين نذهب مباشرة لنقد و تفنيد المعارف المقدمة من طرف المحاضر.
خلاصة القول: بعد الحصول على شهادة الدكتورا في تعلميّة البيولوجيا, أشعر أنني لست واثقا من معارفي تمام الوثوق و أشعر أيضا في نفس الوقت أنني متأكد من كل شيء و بما أنني في حالة تعلّم متواصل اشعر دائما بالتوازن و فقدان التوازن المعرفي و القيمي و هذا قدر الباحث!
أمضي مقالي كالعادة بجملتين مفيدتين: "أنا أكتب - لا لإقناعكم بالبراهين أو الوقائع - بل بكل تواضع لأعرض عليكم وجهة نظر أخرى".....
"على كل مقال سيّئ نردّ بمقال جيّد لا بالعنف, لا المادي و لا اللفظي"