القانون والمجتمع في بلاد ما بين النهرين
تمهيدبلاد ما بين النهرين هي تلك البلاد التي تقع ما بين نهري دجلة والفرات، والتي تعرف اليوم باسم العراق.
وحضارة بلاد ما بين النهرين هي حضارة قديمة أسوة بالحضارة المصرية، حيث تمتد جذورها التاريخية إلى العصر الحجري . على أنه بينما أتسمت الحضارة المصرية بالعزلة، فإن بلاد ما بين النهرين قد ارتبطت بالشعوب المجاورة بروابط متعددة خاصة في مجال التجارة.
كان سكان بلاد ما بين النهرين ينتمون أساسا إلى جنسين: السومريون، وهم سكان غير ساميين يتوطنون في جنوب البلاد، والأكاديون في الشمال وهم من الساميين. وكانت " أكاد " التي ينتمي إليها هؤلاء الأخيرين تقع في شمال " سومر ".
ولا يعرف العلماء على وجه التحديد الأصل التاريخي للسومريين أو الجنس الذي ينتمون إليه. وإن أعتقد البعض أن موطنهم الأصلي مرتفعات فارس أو المنطقة التي تقع وراء الخليج العربي .
إذن، بلاد أكاد وسومر هي بلاد ما بين النهرين، وقد عُرفت أيضا باسم بابل، باب إيل أي باب الله.
كانت بلاد ما بين النهرين مقسمة إلى دويلات يحكم كل منها ملك أو أمير، مما أعاق حركة تقدمها، بل وكان سببا أساسيا في حروب متعددة بين هذه الدويلات حتى استطاع الملك "حمو رابي" (١٧٤٨- ١٦٨٦ ق. م.) توحيد البلاد وجعل من اللغة الأكادية اللغة الرسمية للدولة الموحدة، وبذلك توحدت البلاد سياسيا وتشريعيا في عهد البابليين، وهو ما استمر أيضا في عهد الآشوريين، وهم من الأقوام السامية التي تركت موطنها الأصلي في الجزيرة العربية وتوطنت في بلاد ما بين النهرين.
وقد وصل سلاطين وملوك آشور إلى كل منطقة الهلال الخصيب ودمشق وفلسطين حتى منطقة الدلتا بمصر السفلى. إلا أن بطش الحكام الآشوريين قد آلب عليهم أعداءهم فولّت دولتهم وانتقل السلطان مرة أخرى إلى الدولة البابلية الجديدة التي استمرت حتى استولى الفرس عليها عام ٥٤٩ ق. م. التي أصبحت بذلك جزءا من الإمبراطورية الفارسية حتى عام ٣٣١ ق. م.، حيث استولى الاسكندر الأكبر على بلاد ما بين النهرين التي غدت جزءا من إمبراطوريته.
وقبل أن نعرض النظم القانونية التي سادت في بلاد ما بين النهرين، فلعله من الضروري أن نتصدى أولا للأوضاع السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة في هذه البلاد.
الأوضاع السياسية
نشأت بلاد ما بين النهرين ما بين النهرين في شكل دويلات متعددة تتكون كل منها من مدينة معينة وما يحيط بها من أراضي. وهكذا قامت دول المدن كما أسماها المؤرخون.
وعلى هذا النحو كانت المدينة هي الخلية الأساسية في التنظيم السياسي. وكان تأسيس المدينة عملا إلهيا يتم بناءها على أوامر الآلهة بوصفها مركزا للعبادة.
أما الملك فكان الوسيط بين الآلهة والبشر، أو نقطة التلاقي بين السماء والأرض. فلم يكن وضع ملوك بلاد ما بين النهرين مماثل لفراعنة مصر مثلا، حيث كان الملك نفسه هو الإله وليس مجرد وسيط بين الآلهة والناس.
ولما كان الملك هو الوسيط بين الآلهة والبشر، فهو إذن الذي يتلقى القوانين من الآلهة ليحكم بمقتضاها بين الناس. فهو القاضي الأعلى، وهو من تجب طاعته على الجميع.
ومن جهة أخرى فقد كان الملك هو الكاهن الأكبر للديانة، وهو الذي يدير أموال الآلهة. ولقد كان للملك أمواله الخاصة، فهو لم يدع في يوم من الأيام أنه المالك الوحيد لأراضي البلاد جميعها كما أدعى الفراعنة في مصر مثلا.
واعتبار الملك وسيطا بين الآلهة والبشر قد جعل مسؤوليته مباشرة أمام الآلهة إذا لم يحقق الخير للجماعة ولم يكفل العدالة بين الناس .
وكانت الملكة، زوجة الملك، هي التي تساعده في إدارة البلاد، ويساعدها "النوباندا" أي المشرف العام، وهو أمين خزانة الملك والمشرف على المشاريع والشؤون الزراعية، وحاجب القصر ومسجل العقود.
وتشير الوثائق إلى وجود عدد من "النوباندا" يختص كل منهم بالإشراف على قطاع أو عمل معين. ويتبع كل منهم عدد من الموظفين.
كما تشير الوثائق التاريخية إلى أن ملوك بلاد ما بين النهرين قد استعانوا بالوزراء لمساعدتهم على إدارة البلاد، وعلى رأس هؤلاء الوزير الأول المسؤول مباشرة أمام الملك.
ولعبت المعابد دورا هاما في الحياة الاقتصادية للبلاد، حيث كان للآلهة أملاكهم الخاصة ومخازن غلالهم وعبيدهم، وهي أملاك تتبع المعابد التي تتصرف في ريعها. وقد تكونت هذه الأملاك مما كان يقطعه كبار الملاك للمعابد أو ما يقدمونه إليها من أملاك طلبا لرضاء الآلهة وتجنبا لغضبهم .
وقد كان من المحظور التصرف في أموال المعابد على أي نحو ما عدا إيجار الأراضي الذي سمح به على أن تستعمل الأجرة لصالح المعبد.
ورغبة في حماية أموال المعابد، فقد كان أي اعتداء على هذه الأموال بالسرقة، أو غيرها يعرض مرتكبه لعقوبة الإعدام.